الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وأنشد أبو علي: وقيل: هي غير عارية عن ذلك، والمراد تشبيه الحال المطلق بما في حيزها إشارة إلى أنه لتحققه وشهرته يصلح أن يشبه به كل شيء وهو كما ترى وزعم الهمداني أن الخليل ذهب إلى أن {وى} للتندم وكأن للتعجب والمعنى ندموا متعجبين في أن الله تعالى يبسط الخ، وفيه أن كون كأن للتعجب مما لم يعهد، وأيًا ما كان فالوقف كما في البحر على {وى} والقياس كتابتها مفصولة وكتبت متصلة بالكاف لكثرة الاستعمال وقد كتبت على القياس في قول زيد بن عمرو بن نفيل: وقال الأخفش: الكاف متصلة بها وهي اسم فعل بمعنى أعجب، والكاف حرف خطاب لا موضع لها من الإعراب كما قالوا في ذلك ونحوه، والوقف على ويك، وعلى ذلك جاء قول عنترة: و{إن} عنده مفتوحة الهمزة بتقدير العلم أي أعلم أن الله الخ، وذهب الكسائي. ويونس. وأبو حاتم وغيرهم إلى أن أصله ويلك فخفف بحذف اللام فبقي ويك، وهي للردع والزجر والبعث على ترك ما لا يرضى، وقال أبو حيان: هي كلمة تحزن وأنشد في التحقيق قوله: والكاف على هذا في موضع جر بالإضافة، والعامل في أن فعل العلم المقدر كما سمعت أو هو بتقدير لأن على أنه بيان للسبب الذي قيل لأجله ويك، وحكى ابن قتيبة عن بعض أهل العلم أن معنى ويك رحمة لك بلغة حمير، وقال الفراء: ويك في كلام العرب كقول الرجل: ألا ترى إلى صنع الله تعالى شأنه، وقال أبو زيد وفرقة معه: وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ويكأن حرف واحد بجملته وهو بمعنى ألم تر.{لَوْلا أَن مَّنَّ عَلَيْنَا} بعدم اعطائه تعالى ما تمنيناه من إعطائنا مثل ما أعطاه قارون {لَخَسَفَ بِنَا} أي الأرض كما خسف به أو لولا أن من الله تعالى علينا بالتجاوز عن تقصيرنا في تمنينا ذلك لخسف بنا جزاء ذلك كما خسف به جزاء ما كان عليه.وقرأ الأعمش {لَوْلاَ مِنْ} بحذف {إن} وهي مرادة، وروي عنه من الله برفع من والإضافة. وقرأ الأكثر {لَخَسَفَ بِنَا} على البناء للمفعول و{بِنَا} هو القائم مقام الفاعل، وجوز أن يكون ضمير المصدر أي لخسف هو أي الخسف بنا على معنى لفعل الخسف بنا، وقرأ ابن مسعود. وطلحة. والأعمش {لا نَخْسِفْ بِنَا} على البناء للمفعول أيضًا و{بِنَا} أو ضمير المصدر قائم مقام الفاعل، وعنه أيضًا {لتخسف} بتاء وشد السين مبنيًا للمفعول {بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون} لنعمة الله تعالى أو المكذبون برسله عليهم السلام وبما وعدوا من ثواب الآخرة، والكلام في ويكأن هنا كما تقدم بيد أنه جوز هنا أن يكون لأن على بعض الاحتمالات تعليلًا لمحذوف بقرينة السياق أي لأنه لا يفلح الكافرون فعل ذلك أي الخسف بقارون، واعتبار نظيره فيما سبق دون اعتبار هذا هنا، وضمير ويكأنه للشأن.هذا وفي مجمع البيان أن قصة قارون متصلة بقوله تعالى: {نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ موسى} [القصص: 3] عليه السلام، وقيل: هي متصلة بقوله سبحانه: {فَمَا أُوتِيتُمْ مّن شيء فمتاع الحياة الدنيا وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ وأبقى} [القصص: 60]، وقيل: لما تقدم خزى الكفاء وافتضاحهم يوم القيامة ذكر تعالى عقيبه أن قارون من جملتهم وأنه يفتضح يوم القيامة كما افتضح في الدنيا، ولما ذكر سبحانه فيما تقدم قول أهل العلم {ثَوَابُ الله خَيْرٌ} [القصص: 80] ذكر محل ذلك الثواب بقوله عز وجل: {تِلْكَ الدار الآخرة} مشيرًا إشارة تعظيم وتفخيم إلى ما نزل لشهرته منزلة المحسوس المشاهد كأنه قيل: تلك التي سمعت خبرها وبلغك وصفها، و{الدار} صفة لاسم الإشارة الواقع مبتدأ وهو يوصف بالجامد ولا حاجة إلى تقدير مضاف أي نعيم الدار كما يوهمه كلام البحر، و{الآخرة} صفة للدار، والمراد بها الجنة وخبر المبتدأ قوله تعالى: {نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا وَفِى الأرض} أي غلبة وتسلطًا {وَلاَ فَسَادًا} أي ظلمًا وعدوانًا على العباد كدأب فرعون وقارون، وليس المصوول مخصوصًا بهما، وفي إعادة {لا} إشارة إلى أن كلا من العلو والفساد مقصود بالنفي، وفي تعليق الموعد بترك ءرادتهما لا بترك أنفسهما مزيد تحذير منهما.وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن عكرمة أنه قال: العلو في الأرض التكبر وطلب الشرف والمنلزة عند سلاطينها وملوكتها والفساد العمل بالمعاصي وأخذ المال بغير حقه. وعن الكلبي العلو الاستكبار عن الإيمان والفساد الدعاء إلى عبادة غير الله تعالى، وروي عن مقاتل تفسير العلو بما روي عن الكلبي، وأخرج ابن مردويه وابن عساكر عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه كان يمشي في الأسواق وحده وهو وال يرشد الضال ويعين الضعيف ويمر بالبقال والبياع فيفتتح عليه القرآن ويقرأ تلك الدار الآخرة إلى آخرها، ويقول: نزلت هذه الآية {تِلْكَ الدار الآخرة} الخ، في أهل العدل والتواضع من الولاة وأهل القدرة من سائر الناس.وأخرج ابن مردويه عن عدي بن حاتم أنه لما دخل على النبي صلى الله عليه وسلم ألقى إليه وسادة فجلس على الأرض، فقال عليه الصلاة والسلام أشهد أنك لا تبغي علوًا في الأرض ولا فسادًا فأسلم رضي الله تعالى عنه، وعن الفضيل أنه قرأ الآية ثم قال: ذهبت الأماني ههنا، وعن عمر بن عبد العزيز أنه كان يرددها حتى قبض، وأخرج ابن أبي سيبة. وابن جرير. وابن المنذر. وابن أبي حاتم عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال: إن الرجل ليحب أن يكون شسع نعله أجود من شسع نعل صاحبه فيدخل في هذه الآية.ولعل هذا إذا أحب ذلك ليفتخر على صاحبه ويستهينه وإلا فقد روي أبو داود عن أبي هريرة أن رجلًا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان جميلًا فقال: يا رسول الله إني رجل حبب إلى الجمال وأعطيت منه ما ترى حتى ما أحب أن يفوقني أحد إما قال بشراك لعل وإما قال بشسع نعل أفمن الكبر ذلك؟ قال لا ولكن الكبر من بطر الحق وغمط الناس. وروي مسلم. وأبو داود. والترمذي عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر» فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا، ونعله حسنًا قال: «إن الله تعالى جميل يحب الجمال؛ الكبر بطر الحق وغمط الناس» واستدل بعض المعتزلة بالآية بناء على عموم العلو والفساد فيها على تخليد مرتكب الكبيرة في النار، وفي الكشاف ما هو ظهار في ذلك، والتزم بعضهم في الجواب تفسير العلو والفساد بما فسرهما به الكلبي وآخر أن المراد بهما ما يكون مثل العلو والفساد اللذين كانا من فرعون وقارون.ورد بأن التذييل بقوله تعالى: {هُدًى لّلْمُتَّقِينَ} يدل على أن العمدة هي التقوى ولا يكفي ترك العلو والفساد المقيدين.وأجيب بأن المتقي هاهنا هو المتقي من علو فرعون وفساد قارون أو من لم يكن من المؤمنين مثل فرعون في الاستكبار على الله تعالى بعدم امتثال أوامره والارتداع عن زواجره ولم يكن مثل قارون في إرادة الفساد في الأرض وإخراج كل شيء من كونه منتفعًا به لاسيما نفسه فإن غاية إفسادها الامتناع من عبادة ربها لأنها خلقت للعبادة فإذا امتنع عنها خرجت عن كونها منتفعًا بها وليس معنى المتقي إلا ذلك.وتعقبه صاحب الكشف بأن الأول تقييد بلا دليل والثاني هو الذي يسعى له المعتزلي، وقال الفاضل الخفاجي: إما أن يراد بالعاقبة المحمودة على وجه الكمال أو يراد بالمتقي المتقي ما لا يرضاه الله تعالى مثل حال قارون بقرينة المقام، والنصوص الدالة على أن غير الكفار لا يخلد في النار فلا وجه للقول بأن ذلك تقييد بلا دليل مع أن مبنى الاستدلال على أن اللام للتخصيص وهو ممنوع، وقال بعض في الجواب على تقدير إرادة العموم في علوًا وفسادًا: إن المراد من جعل الجنة للذين لا يريدون شيأ منهما تمكينهم منها أتم تمكين نحو قولك: جعل السلطان بلد كذا لفلان وذلك لا ينافي أن يدخلها غيرهم من مرتكب الكبيرة ويكون فيها بمنزلة دون منزلتهم، ولعله إنما دخلها بشفاعة بعض منهم، وقريب منه ما قيل: إن جعلها لهم باعتبار أنهم أهلها الأولون وملوكها السابقون وغيرهم إنما يرد عليهم وينزل بهم؛ ويقال في قوله تعالى: {والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ} نحو ما مر آنفًا عن الخفاجي.بقي في الآية كلام آخر، وهوان بعضهم استدل بها على عدم وجود الجنة اليوم بناء على أن معني {نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ} الخ نخلقها في المستقبل لأجلهم، وأجيب بأنه يحتمل أن يكون الجعل متعديًا إلى مفعولين ثانيهما {لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ} الخ فيصير المعنى نجعلها كائنة وحاصلة لهم في الزمان المستقبل فتفيد الآية أن جعلها كائنة لهم غير حاصل الآن لا جعلها نفسها وهو محل النزاع، ودفع بأن المتبادر من جعل الدار كائنة لزيد تمكينه وعدم منعه من التمكن فيها سواء حصل له التمكن فيها أو لم يحصل، فمعنى {نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ} الخ نمكنهم في الاستقبال من التمكن فيها، ولا يخفى ركاكته لأن التمكين من التمكن فيها لازم لوجودها غير منفك عنها على ما يدل عليه قوله تعالى: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133] فلا يمكن أن تكون نفس اجلنة الآن ويكون جعلها كائنة لهم في الاستقبال، وحمل الجعل على التمكن بالفعل والتميكن من التمكن وإن كان لازمًا لوجود الجنة لكن التمكن فيها بالفعل غير لازم بل يكون فيما سيجيء عدول عن المتبادر فإن المتبادر من قولك: جعلت الدار لزيد تمكينه من التمكن فيها لا جعل زيد متمكنًا فيها بالفعل فتدبر ذلك كله. اهـ.
|